هل الرأسمالية مهددة فعلاً.. بالانهيار؟! (4)

.. فمن خلال رصده لمسيرة الاقتصاد الرأسمالي والتطورات والتغيرات على الساحة العالمية، قدم حلولاً للاقتصاد المأزوم، متطلعاً إلى مستقبل أفضل للشعوب، وكان له العديد من الكتب في تسعينات القرن الماضي مثل (خيبات العولمة) و(التسعينيات الهادرة) و(كيف تجعل العولمة مثمرة) الخ.. وفي هذا الكتاب الأخير توصّل إلى نتائج هامة استخلصت ثمانيَ منها!

النتيجة الأولى: تخص العلاقة بين الدول الصناعية المتقدمة والدول النامية عبر المؤسسات الدولية، فالدول الصناعية المتقدمة لم تقدم مساعدة جدّية إلى الدول النامية، وإنما جعلت حياة هذه الدول أصعب، كما أن المؤسسات الدولية زادت من سوء أزمة 1997 في جنوب شرق آسيا على سبيل المثال.

النتيجة الثانية: أظهر (ستيجلز) أوجه الخلل الأساسية في اقتصادات صندوق النقد الدولي، ومنها الاعتقاد بأن الأسواق تؤدي إلى الكفاءة الاقتصادية.

النتيجة الثالثة: كان للعلاج بالصدمة (الذي فرض على دول الاتحاد السوفياتي السابق) دوراً في فشل التحول نحو اقتصاد السوق.

النتيجة الرابعة: إن سعي التكنوقراط (فئة المديرين التنفيذيين والمحاسبين والمسؤولين الإداريين وبنوك الاستثمار) وراء مصالحهم الشخصية أدى إلى فقاعة مالية واقتصادية صاحبها أوجه هائلة من سوء التخصيص والاستثمار، وعندما انفجرت الفقاعة أدت إلى انكماش اقتصادي.

النتيجة الخامسة: لا يوجد شكل واحد للرأسمالية، ولا يوجد سبيل واحد صحيح لإدارة الاقتصاد، فهناك أشكال أخرى لاقتصاد السوق، مثل ذلك الموجود في السوق التي واصلت نمواً قوياً مزدهراً، أدى إلى مجتمعات مختلفة تماماً، تميزت بتعليم ورعاية صحية أفضل، وصولاً إلى قدر أقلّ من عدم المساواة، (مشيراً إلى اقتصاد السويد) ويقول رغم أن النسخة السويدية قد لا تنجح في بلد آخر إلا أن نجاحها برهن على أن هناك أشكالاً بديلة من اقتصادات السوق الفعالة، وعندما تكون هناك بدائل وخيارات، فإن العمليات السياسية والديمقراطية ينبغي أن تحتل المركز في اتخاذ القرار وليس التكنوقراط.

النتيجة السادسة: وهي متصلة بما سبق ومفادها أن اقتصادات (ستيجلز) تجعل الناس جميعاً أفضل حالاً، في حين أن جوهر علم الاقتصاد هو الاختيار، أي أنه توجد بدائل، بعضها يتم على حساب آخرين، وبعضها يفرض مخاطر على البعض لصالح آخرين.

النتيجة السابعة: النجاح الاقتصادي، يتطلب التوصل إلى توازن صحيح بين الحكومة والسوق، والتوازن يتغير مع الزمن، ويختلف من دولة إلى أخرى، لكنه يلاحظ أن العولمة بالشكل الذي يروج لها، جعلت التوازن المطلوب أمراً صعباً (علماً أن جوهر العولمة هو الاقتصاد الليبرالي الجديد- اقتصاد السوق المنفلت من أية قيود).

النتيجة الثامنة: لا توجد حلول سحرية للأزمة، إلا أنه يقول بأن هناك عدداً من التغيرات يجب إجراؤها في السياسات والمؤسسات وفي قواعد اللعبة، وفي عقليات الناس وفي التفكير، مؤكداً دور الديمقراطية في التغيير المطلوب، وبذلك يمكن أن (تصبح العولمة مثمرة).

هذا التغيير الذي يطلبه (ستيجلز) في قواعد اللعبة، هل يمكن تحقيقه في ظل هيمنة الولايات المتحدة ودهاقنة الليبرالية الاقتصادية الجديدة؟ تلك الهيمنة والأفكار التي قادت إلى تعاظم حجم اللا مساواة في الدخل والثروة، ذلك الحجم الذي كشف عن تزايده (توماس بيكيتي) الاقتصادي الفرنسي في كتابه (رأس المال في القرن الحادي والعشرين) الذي صدرت ترجمته العربية في الشهر الماضي في بيروت وقبلها في القاهرة، وقد حضر بيكيتي إلى كل من القاهرة وبيروت، ولقي فيهما اهتماماً بالغاً من قبل المفكرين والاقتصاديين نظراً للنتائج الباهرة التي توصل إليها في كتابه الذي وصل عدد صفحاته إلى ألف، وقد وجدت ترجمته الإنكليزية رواجاً كبيراً في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان، فقد جمع (بيكيتي) أدلة واحصاءات تاريخية تثبت تزايد اللا مساواة الاقتصادية والثروة الموروثة التي أدت بالتالي إلى ادعاء (حكم الأثرياء).

وقد أشار (ستيجلز) إلى الاهتمام الذي أبداه الأمريكيون بهذا المؤلف الجديد، إلا أنه اختلف مع (بيكيتي) في تشخيص أسباب الداء المتمثلة في تفشي اللا مساواة في المجتمع المعاصر وطرق علاجها.

لكن كلاهما لم يصل إلى درجة نهاية الرأسمالية، ففي حين يحاول (ستيجلز) تبرئة ساحة الرأسمالية عندما يقول إن ما هو مطبق في الولايات المتحدة هو رأسمالية مزيفة تم تصميمها لخلق اللا مساواة. يرى (بيكيتي) أن اللا مساواة ليست من قبيل المصادفة، إنها (طابع أساسي للرأسمالية) ولكنه لم يصل إلى حد المطالبة باجتثاثها.

وقد حمل البعض النتائج التي توصل إليها (بيكيتي) بأكثر مما هي في الواقع، فقد اتجه هذا البعض إلى وضعه في الصف الماركسي، إلا أن التحليل العلمي لما أورده لا يوحي بذلك، فالماركسية تقول بأن الرأسمالية سوف تدمر نفسها في سعيها المستمر إلى الربح (والأخذ عملياً في التناقص) مما يخلق التناقض الأساسي للرأسمالية، إذ إن الإنتاج ينتهي دائماً لمصلحة الفرد، في حين أن العملية الإنتاجية تحدث على نحو جماعي، وتقول الماركسية إن نتيجة هذا التناقض ستكون انهيار النظام الرأسمالي، إلا أن (بيكيتي) يرى أن الرأسمالية ستصبح منفلتة، وبالتالي يجب عمل شيء ما لإنقاذها، وكأن تناقضات الرأسمالية تحدث خارجها، في حين أن الماركسية ترى هذه التناقضات داخل الرأسمالية نفسها.

جوهر ما توصّل إليه (بيكيتي) هو أن العوائد على الرساميل ستتجاوز معدل النمو في الاقتصاد، وبسبب تركّز الرساميل فإنها ستحصل على أرباح وفوائد لن يستطيع الاقتصاد توفيرها، فتصل بذلك الرأسمالية إلى أزمة.

وفي حين ترى الليبرالية الاقتصادية الجديدة (وجوهرها اقتصاد السوق وحريته وانفلاته) إلا الفجوة في الدخول سوف تنكمش مع النمو الاقتصادي، فإن بحث (بيكيتي) يثبت أن فجوة الدخول تتسع مما يخلق حالة من اللا مساواة تتفاقم مع تمركز الثروة والدخول، ففي الولايات المتحدة يمتلك 10% من الأسر، 70% من ثروة البلاد (عام 2010) ويمتلك 1% من الأسر 35% من الثروة، وفي الوقت نفسه يمتلك النصف الأدنى من الأسر 5% فقط، وعندما ينمو الدخل الناتج عن الرأسمال بمعدل أسرع تستفيد الأسر الأغنى على نحو غير متناسب، مما يزيد من عمق الفجوة واللا مساواة، وهذا ما جعل (بيكيتي) يصل إلى أحدى نتائجه الهامة وهي أن اتجاه الرأسمالية إلى تراكم الثروة أكثر فأكثر في أيدي عدد أقل فأقل من الأفراد سوف يؤدي إلى آثار سياسية، أغلبية الناس سيصيرون أفقر في المستقبل والأزمة تتفاقم.

وللخروج من الأزمة يرى (بيكيتي) أن تدخل الدولة هو الوسيلة الوحيدة لخفض مستوى اللا مساواة في الدخل والثروة، وذلك بفرض ضريبة سنوية عالمية (انطلاقاً من كون اللا مساواة توجد في العالم أجمع) يضاف إليها نسب أعلى من الضريبة التصاعدية على الدخول تصل إلى 80% مما يؤدي إلى خفض اللا مساواة ومنع تركز الجزء الأكبر من الثروة في أيدي القلة.

وهكذا يجد منظرو الاقتصاد دائماً المخرج المناسب للرأسمالية نظاماً تحكمه مصالح معينة، فأمام أزمة الكساد العظيم (1929) وجد (كينز) المخرج باللجوء إلى تدخل الدولة من أجل تفعيل الطلب وزيادة الحاجة إلى العمالة والقضاء على البطالة، ومع تصاعد أزمة (الركود التضخمي) وجدت الليبرالية الاقتصادية الجديدة طريقها نحو الاستيلاء على مراكز القرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي بفرض جدول أعمال التحول نحو اقتصاد السوق، وتحميل تدخل الدولة المسؤولية كاملة عن الأزمة، ومع استفحال الأزمة في الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي- وجد كل من الرئيس الأمريكي كلينتون ورئيس الوزراء البريطاني بلير الحلّ بمشورة بعض الاقتصاديين من أمثال (جيدنز) أن الحل هو في الطريق الثالث الذي يسمح ببعض التدخل من الدولة، إلى أن وصل الأمر (مع تفاقم الأزمة) باقتصاديين من أمثال (ستيجلز) إلى الدعوة إلى إيجاد (تزاوج) ما بين اقتصاد السوق وتدخل الدولة، ودفع هذا البعض من الاقتصاديين إلى إحياء فكرة اقتصاد السوق الاجتماعي تيمناً بما حصل في بعض دول أوربا الغربية كالسويد.

أريد أن أخلص من ذلك إلى أن بإمكان النظام الرأسمالي بما يملكه من إمكانات وكفاءات وأدوات وأساليب أن يجد دائماً الحلول (الاقتصادية والمالية والنقدية) لأزماته، على أن تأتي هذه الحلول في مستوى ما يناسبه أي البقاء على جوهر النظام الرأسمالي وقوانينه الأساسية. وأذكر هنا بما أوردته في هذا البحث من أقوال الرئيس الأمريكي السابق بوش لمجموعة العشرين التي شُكّلت ودُعِيت على عجل للبحث في أزمة خريف 2008، إذ قال: ابحثوا عن كل ما ترون، وضعوا الحلول التي ترونها دون المساس باقتصاد السوق.

وبعد التطورات التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة، وبعد أن لمسنا تداعيات الأزمة الاقتصادية والمالية الأخيرة، وبعد وقوفنا على التطور الحاصل في الاقتصاد والنظام الرأسمالي تحت وطأة فشل النظام الاشتراكي السوفياتي، وتحول الصين الشيوعية نحو ما يدعى (اقتصاد السوق الاشتراكي أو الاجتماعي).

بعد ذلك كله، نجد أن المشكلة ليست اقتصادية بحت وإلا لوجد العلم حلولاً لها، المشكلة أيضاً اجتماعية- ثقافية- أخلاقية، وهذا يعيدنا إلى ما قاله (شومينر) بأن انتهاء الرأسمالية سيكون لأسباب ثقافية، كما أنه يعيدنا إلى ما أشار إليه (سميث) أبو الليبرالية والاقتصاد الحر، عندما اشترط أن لا تقود حرية السوق إلى الاحتكار، وقال على نحو صريح: (لا يمكن بالتأكيد لأي مجتمع أن يكون مزدهراً أو سعيداً، إذا كان القسم الأكبر من أفراده فقيراً وبائساً).

هذا ما خرج به سميث في بدء بلورة النظام الرأسمالي، فماذا نقول الآن، ونحن نشهد جموع الجوعى من البشر، وجموع النازحين واللاجئين والعاطلين عن العمل وقسوة الأساليب الاحتكارية ووحشية السوق وعمليات التهميش والإقصاء، واتساع دائرة العمل الإرهابي، والحروب الإقليمية المعيشية، وانهيار دول وتفكك مجتمعات؟!

ألا يوحي ذلك كله بانهيار الأساس الثقافي والأخلاقي للرأسمالية (فضلاً عن الأساس الاقتصادي) في سعيها الحثيث للبقاء؟ ومهما حاول اقتصاديو الرأسمالية ومنظرو الليبرالية، فقد أثبتت التجارب التاريخية أن الأزمات تلاحق النظام الرأسمالي، وأنه إذا كان صامداً حتى الآن إلا أن من الثابت أنه سقط ثقافياً واجتماعياً وأخلاقياً!!

وبالفعل فقد سقطت الثقافة التي بنيت على أساسها الرأسمالية الليبرالية بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، سقطت ثقافة العولمة وما يروج حول التحول فإذا بالجدران والأسلاك المكهربة تتعالى بين الدول، سقطت الثقافة الأمريكية القائمة على الفردية والتفرد ونفي الآخر وتهميش الشعوب وإفقار الملايين، سقطت أمام جحافل الجوعى، سقطت عندما تبنّت إيديولوجيا التكفير واستخدمت المعوقين عقلياً في حربها الظالمة ضد الشعوب، سقطت ذلك كله ثقافياً وأخلاقياً، بانتظار السقوط الاقتصادي والسياسي.

وأنا أختم كتابة هذا البحث، صباح يوم الجمعة 24/6/2016 تواردت أنباء الإعلان عن نتائج الاستفتاء الذي أجرته بريطانيا حول خروجها من الاتحاد الأوربي، وأحدثت هذه الأنباء ردود فعل مختلفة، فالبعض دعاها زلزالاً هز أركان العالم، والبعض قال عن الحدث إنه كارثة أو ضربة وجعة، وآخرون قالوا عنه صدمة ويوم أسود.. ومهما كان توصيف ما حدث فهو بلا شك حدث يستحق التوقف عنده طويلاً، والتدقيق في تداعياته على النظام العالمي، وعلى منطقتنا العربية، وعلى مستقبل أوربا، ومستقبل الاقتصاد العالمي، فهل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي هو بداية تفكك النظام الرأسمالي؟ وما أثر ذلك على فكرة التكامل الاقتصادي؟ هذا ما سأحاول الإجابة عنه في دراسة مستقبلية، ليس بعيداً عمّا توصلنا إليه في هذا البحث.

 

العدد 1104 - 24/4/2024