تركيا الحائرة بين مواصلة دعم داعش والتصدي لها في ضوء المستجدات

لن تخرج من تحت العباءة الأطلسية وستبقى رهينة الإرادة الصهيوأمريكية

 في وقت سابق، لفت (أريم أرديم) العضو في حزب الشعب الجمهوري التركي وأحد منتقدي رجب طيب أردوغان إلى أن الوثائق المسرّبة حول العلاقة الوثيقة بين أردوغان وتنظيم داعش تشكل (دليلاً قذراً) على أن أنقرة تساعد هذا التنظيم وتسهم بأشكال مختلفة في تنفيذ عملياته داخل سورية وتغض الطرف عنها، ومؤكداً في مؤتمر صحفي عرض فيه أربعمئة واثنتين وعشرين صفحة من المكالمات الهاتفية المسربة، أن تلك المكالمات كشفت النقاب عن معلومات دقيقة تشمل الفنادق التي أقام فيها عناصر من داعش ووسائل تنقّلها داخل تركيا تمهيداً لنقلها إلى سورية، وتكشف عن المسؤول عن تلك الإجراءات، وتساءل أرديم) كيف لم يُعتقَل هؤلاء الإرهابيون مع توفّر كل هذه المعلومات؟).

وعلى الرغم من أن سجلات الأمن التركي تضمنت في مراحل سابقة اعتقال تسعمئة وواحد وستين عضواً من (داعش) قادمين من سبعٍ وخمسين دولة إلى تركيا، تؤكد المكالمات الهاتفية المسربة التي سبق أن كشفت النقاب عنها صحيفة (صنداي إكسبريس) البريطانية، استمرار عبور آلاف الارهابيين إلى سورية بمعرفة أجهزة الأمن التركية.

في هذا السياق كشفت تلك التسريبات النقاب عن مكالمات هاتفية جرت بين (إلهامي بالي) أحد مسؤولي داعش وعدد من أعوانه داخل تركيا تحدثوا في خلالها عن العدد الدقيق للأشخاص الذين قاموا بتسهيل حركة تنقّلهم وتهريبهم، وهنا تجدر الإشارة إلى أن عدد الارهابيين الذين دخلوا الأراضي السورية خلال السنوات الخمس الماضية قادمين من ثلاثٍ وتسعين دولة، قد بلغ ثلاثمئة وستين ألفاً، دخل معظمهم إلى سورية من أراضي تركيا بالتنسيق مع الاستخبارات التركية.

يُضاف إلى ذلك، ما جاء في النسخة الانكليزية للمجلة التي أصدرها تنظيم داعش تحت اسم (دابق) نسبة إلى منطقة (مرج دابق) الواقعة في ريف حلب الشمالي، والتي شهدت معركة مرج دابق، التي تمكّن فيها الغزاة العثمانيون بقيادة السلطان سليم الأول قي 18 آب 1516 من التغلّب على جيوش المماليك بقيادة قانصوه الغوري، واحتلوا بعدها سورية ومعظم الأرض العربية لمدة أربعة قرون تحت عنوان (الخلافة الإسلامية)، وقد أشارت المجلة إلى عدم تقاطع ربط الود بين داعش وتركيا مع مجريات كثيرة وواضحة، مثل عدم التعرض لمختطفين أتراك بينهم عناصر من القوات الخاصة التركية، فضلاً عن تجنّب داعش المسّ ببعض المعالم التاريخية أو الدينية ذات الصلة بتركيا داخل الأراضي السورية، على الرغم من أن داعش لم تتوانَ عن تدمير كل أضرحة المسلمين في الموصل وسورية، ويضاف إلى ذلك أيضاً تودد داعش لحكومة أردوغان كاشفاً عن علاقته الوثيقة مع الاستخبارات التركية، وحسب ما نشرته وكالة(نون) الإخبارية فقد حمل العنوان الرئيسي للمجلة عبارة (عودة الخليفة) في إشارة إلى ميول تنظيم داعش الإيديولوجية إلى إيديولوجية حزب أردوغان الرجعية.

وتبعاً لذلك بلغ التناغم بين تنظيم داعش وحزب العدالة والتنمية مستويات متقدمة من العلاقات وصلت إلى درجة تبني أردوغان والاستخبارات التركية لذلك التنظيم، بما يتفق مع دور حزب العدالة والتنمية التركي في تنفيذ المخطط الأمريكي الصهيوني الرجعي الرامي إلى تدمير الدولة السورية، حسب خطة بندر- فيلتمان، وصولاً إلى خلق ما أطلقوا عليه تسمية (الفوضيى الخلاقة) في المنطقة، وتمهيد الطريق أمام إقامة شرق أوسط جديد، يخدم بناؤه السياسة الإمبريالية التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية تجاه بلدان العالم وشعوبه.

وبما أن الإدارة الأمريكية لاتزال بصدد تنفيذ مخططاتها تجاه سورية والمنطقة العربية، وأنها بحاجة إلى وكلاء عنها في هذا المجال، فقد كلفت عميلتيها السعودية وقطر بتمويل تلك المخططات، وبضمن ذلك العصابات المرتزقة التي استُقدِمت من نحو مئة دولة من بلدان العالم، فيما كلفت حليفتها الأطلسية تركيا بمهمة توفير السلاح وتقديم الدعم اللوجستي لتلك العصابات واستخدامها أداةً لإسقاط الدولة السورية، وعليه جعل أردوغان من الأراضي التركية مأوى وممراً لتلك العصابات، وورط الاستخبارات التركية في دعمها من خلال التغاضي عن قدوم المقاتلين من مختلف مناطق العالم للدخول إلى سورية عبر الأراضي التركية، وما ترتب على ذلك من إيصال السلاح لها وشراء النفط منها، بل إن التقارير التركية تشير إلى وجود نحو ثلاثة آلاف تركي منخرطين في تنظيم داعش حسب صحيفة ميللييت التركية، فضلاً عن دعم التنظيم التركستاني وتنظيم نور الدين الزنكي، ليس فقط من أجل النيل من الدولة السورية، بل أيضاً من أجل محاربة أكراد سورية من خلال هذه الجماعات، خاصة أن تركيا التي تعيش فوبيا القضية الكردية ورطت نفسها في وقت سابق بصورة مباشرة في معارك رأس العين وتل أبيض بين المقاتلين الأكراد وتنظيمي داعش وجبهة النصرة، حيث دفعت بالعديد من المجموعات المسلحة من داخل الأراضي التركية وسط قصف مدفعي تركي للقوات الكردية التي أسرت مقاتلين يحملون الجنسية التركية ويحاربون في صفوف النصرة وداعش.

ولاشك أن الدور الوظيفي الذي تقوم به تركيا في خدمة الاستراتيجية الغربية الأطلسية من حيث كون تركيا تشكل واحدة من حلقات الدرع الصاروخية الأمريكية الرئيسية القائمة حول روسيا الاتحادية، بما في ذلك نشر صواريخ باتريوت على أراضيها، إنما يؤكد مدى انغماس أنقرة في سياسة الارتباط بالغرب والتبعية له، على غرار ما كان عليه الوضع في مرحلة الحرب الباردة، ويؤكد بالتالي تكوُّن حالة من الشعور المتعاظم لدى أردوغان بالقوة والجبروت، ما دفعه للمغامرة بالمشاركة في العدوان على سورية والسقوط في أوحال سورية المتحركة.

الآن بعد أكثر من خمسة أعوام على الأزمة السورية لم يتمكن أردوغان وحزبه الرجعي من تحقيق الأحلام الطورانية، فقد صمدت سورية على الرغم من حجم الدمار والقتل والتدمير والضحايا، بينما نرى تركيا التي استخدمت التنظيمات الإرهابية أداةً لها باتت في أزمة حقيقية يهددها خطر تلك التنظيمات نفسها وسط ازدياد موجة الانتقاد في الداخل التركي لسياسة حزب العدالة والتنمية ورئيسه الذي فتح الأراضي التركية أمام العصابات الارهابية باستقبالهم في المطارات التركية، وتحويل الأراضي التركية إلى مقر وممر لها إلى الأراضي السورية، فضلاً عن تأمين المعسكرات والسلاح لها والتغطية النارية كما حصل سابقاً خلال معارك كسب ورأس العين.

لقد تصرف أردوغان انطلاقاً من أحلامه الإمبراطورية، معتقداً بأن استخدام تلك العصابات سوف يحقق له مشروعه العثماني الجديد، فعمل على زجّها في محاولة إسقاط الدولة السورية، وبالتالي جعل الدوائر الاستعمارية تتحكم بالسياسة السورية وتحويل سورية إلى ممر لسياسات أردوغان وأسياده الأمريكيين والصهاينة باتجاه عموم المنطقة.

من أجل ذلك وانطلاقاً من تبعيته للإرادة الأمريكية فقد حول أردوغان تركيا إلى أداة وظيفية بيد صانعي السياسة الأمريكية الذين يريدون إغراق المنطقة في حالة من الفوضى والتفكك والحرب الطائفية، ومن ثمَّ إعادة صوغها من جديد بما يخدم المصالح الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية في إطار المشروع الصهيوني الذي تسعى واشنطن لتحقيقه.

إن أردوغان الذي يغامر بممارسة تلك السياسة الخرقاء بغية تحقيق أحلامه الإمبراطورية، يغامر لا بدفع المنطقة إلى حروب مركبة ومتداخلة ومفتوحة وأزمات معقدة وحسب، بل إنه يغامر أيضاً بمستقبل تركيا نفسها، خاصة أن العالم بدأ يشهد بوادر مخاطر نار الجماعات المتشددة التي أوقدها أردوغان في الداخل التركي نفسه. بعد اتضاح حقيقة عدم اعتراف تلك الجماعات بالحدود الجغرافية بل باستخدام القوة دون أي اعتبار سوى إيديولوجيتها الظلامية المغلقة، وعلى أردوغان أن يدرك أن توسع خطر داعش بات يهدد حلفاءه في العراق ولاسيما إقليم كردستان الذي تتطور علاقاته مع تركيا بوتائر عالية ومتسارعة، وكذلك تركمان العراق الذين رفعت تركيا لواء الدفاع عنهم طوال العقود الماضية، وهذا ما يهدد المصالح النفطية والتجارية التركية مع إقليم كردستان، كما أن توسع نفوذ داعش يجعل منه قوة مهددة لتركيا وليس مجرد أداة بيدها، خاصةً أن المناطق التي يسيطر عليها داعش هي غنية بالنفط والغاز، ما يعني إمكانية شراء المزيد من الأسلحة المتطورة بما يشكل كل ذلك نداً قوياً ومهدداً حقيقياً لحكومة حزب العدالة والتنمية في المستقبل.

إن إدراك أردوغان المتأخر للحالة التي أوصل بلاده إليها، قد جعله يعيد النظر ملياً بما أقدم عليه، وقد بدا ذلك جلياً  من خلال تقديم فروض الاعتذار لروسيا عن مواقفه تجاهها، علَّه بذلك يتمكن من لعب دور سياسي ما في المنطقة، غير أن ذلك لن يتحقق بالمطلق في ضوء عدم وجود الإرادة والرغبة لدى الطبقة السياسية التركية سواء الحاكمة منها أو تلك المعارضة للخروج من تحت العباءة الأطلسية، انطلاقاً من كون الأحلام الإمبراطورية بإحياء السلطنة العثمانية ستبقى مسيطرة على العقلية السياسية التركية التي تحتاج لغطاء أمريكي أملاً بتحويل تلك الأحلام إلى حقيقة ملموسة، وهذا أمر لن يتحقق أبداً، لأن العالم يسير إلى الأمام وليس إلى الخلف مهما تبدلت الظروف والأحوال.

العدد 1104 - 24/4/2024