محاولات أمريكية لإقامة كانتونات في مناطق تخفيف التصعيد السورية تمهيداً لتقسيمها

تتراوح العلاقات الكردية الأمريكية السابقة والراهنة، بين التوظيف الأمريكي للمسألة الكردية في خدمة المصلحة الأمريكية من جهة، وعدم المساس بالعلاقات التركية الأمريكية، والتوظيف الأمريكي لعضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي للمصلحة ذاتها من جهة أخرى، وخاصة الدور التركي في السعي الأمريكي المحموم والمستمر في إقامة الدرع الصاروخية الموجهة ضد الاتحاد الروسي، الأمر الذي اعتبرته موسكو نشاطاً عسكرياً أمريكياً يؤكد ذهاب واشنطن نحو مرحلة جديدة من سباق التسلح وتأجيجاً لنزعتها.

في هذا الإطار تعمل الإدارة الأمريكية على استغلال المكون الكردي (أحد مكونات الشعب السوري)، بما يمكّنها من الدخول على خط الأزمة السورية، مع طمأنة الحليفة الأطلسية تركيا بأن الدعم الأمريكي للأكراد السوريين أو بعضهم، لن يكون على حساب العلاقات العضوية بين واشنطن وأنقرة،
إذ لا يمكن لأحد أن يتجاهل حقيقة أن الفارق كبير جداً بين جوهر العلاقات الأمريكية التركية ذات الطبيعة الاستراتيجية الثابتة، والعلاقات الأمريكية الكردية ذات الطبيعة المرحلية الآنية والمتحولة والتي تستند إلى طبيعة السياسة الأمريكية، ما يستدعي من الجانب الكردي إعادة النظر في مجمل مسألة تقاربه مع الجانب الأمريكي، وإدراك حقيقة أن هدف واشنطن الأساسي هو استخدام الأكراد لتحقيق محور جيوسياسي في الشرق الأوسط موالٍ للولايات المتحدة الأمريكية،
وفي حال تحقيقه تستغني واشنطن عن تعاونها المؤقت مع بعضٍ المكون الكردي، وليس بناء علاقة قوية ودائمة ومستمرة معهم، على غرار سلوك الإدارات الأمريكية المتعاقبة واعتيادها على التعامل مع من توهمهم بصداقتها لهم، ومن ثم لفظهم والبحث عن أصدقاء جدد مفترضين، ولعل لدى التاريخ المعاصر الكثير من الأمثلة الحية التي تؤكد تعدد المعايير الأمريكية التي تستخدمها واشنطن في بناء علاقاتها الخارجية،
والتي تهدف في جانب منها إلى مواصلة التعاون الاستراتيجي مع حليفتها الأطلسية تركيا وإقامة منطقة آمنة في الشمال السوري تخدم الجانبين الأمريكي والتركي في آنٍ معاً، مع الأخذ بالاعتبار نوايا واشنطن مساعدة بعض أكراد سورية على الانفصال عن الوطن الأم سورية، ما يؤكد أن كل الإجراءات الأمريكية في سورية تتجه باتجاه محاولة إقامة كانتونات موالية لواشنطن في بعض المناطق السورية، بما يخدم مصالح الكيان الصهيوني والرجعية العربية وأهدافهم التوسعية العدوانية،
ما يستدعي العمل على منع اعتبار تشكيل مناطق تخفيف التوتر نموذجاً لتقسيمها مستقبلاً، بل لتكون نموذجاً للحوار السياسي الوطني حول مستقبل البلاد وحماية وحدة أراضيها.

ولا شكّ أن مناورات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية في البادية السورية تثير القلق من محاولات واشنطن التقسيمية، ما دفع القوات الجوية الروسية لاستهداف عدد من قوافل داعش الخارجة من مدينة الرقة من دون قتال في بداية طريقها جنوباً تحت بند الأمن الوقائي،
وقد كانت الوجهة الرئيسية لتلك القوافل هي محيط تدمر وبلدة السخنة وريف حماة الشرقي، ما يعني تواطؤ التحالف الأمريكي مع تنظيم داعش، واندراج ذلك في إطار الضغط على قوات الجيش العربي السوري والقوات الرديفة وتهديد تدمر التي تشكل منطلق العمليات الرئيسي باتجاه شرق البادية السورية.

وضمن هذا السياق أشارت وزارة الدفاع الروسية إلى أن قوات سورية الديموقراطية تعمّدت ترك ثُغَرة في نطاق مدينة الرقة الجنوبي، مشددة على أن أي محاولة لانتقال مسلحي داعش من الرقة باتجاه مناطق في ريفي حماة وحمص، سيجري التصدي لها بالقوة المطلوبة.

ولابد في هذا المجال الإشارة إلى أن الجانب الأمريكي لم يحرك ساكناً تجاه المواجهات التركية الكردية في منطقتي عفرين ومنبج، ما يستدعي من الجانب الكردي التنسيق مع الجانب الروسي، بما يحفظ السيادة السورية ووحدة الأراضي السورية، وإقامة حوار وطني مع القيادة السورية لصيانة وحدة البلاد،
والتسليم بأن مصلحة المكون الكردي ضمن الموزاييك الوطني السوري تكمن في الانضواء تحت المظلة الوطنية السورية في إطار وحدتَي الأرض والشعب، وأن هذه المصلحة تتأتى من ضرورة معرفة خلفيات السياسة العامة للولايات المتحدة الأمريكية، ومن الحرص السوري المطلق على احتضان الأرض السورية لجميع مكوناتها الديموغرافية.

في سياق آخر وفي عودة إلى التقييم الموضوعي للسياسة الأمريكية القديمة الجديدة تجاه سورية، يبدو واضحاً استمرار واشنطن في العمل على الحيلولة دون التوصل إلى حلٍ سياسي في سورية، خاصة أن الإدارة الأمريكية لم تعلن بعد، والأصح أنها لن تعلن مستقبلاً، عن استراتيجية واضحة بشأن حل الأزمة السورية،
ولعل ذلك يتجلى على الأقل في عدم رغبتها رفع مستوى مشاركتها في محادثات أستانا، والاكتفاء بدور المراقب فيها، ومواصلة دعمها للكيان الصهيوني للقيام بدوره في مساعدة الفصائل الإرهابية الموجودة في الجولان والجنوب السوري،
في حين تعمل موسكو جاهدة وبصبر غير مسبوق على تخفيف التصعيد في الجنوب والشمال السوريين وفي كل من محافظة إدلب وريف حماة وغوطة دمشق الشرقية تمهيداً لخلق أجواء تساعد على إنجاز خطوات جديدة لمصالحات وطنية،على طريق التوصل إلى حل سياسي ينهي الأزمة السورية على أسس ترسخ السيادة السورية ووحدة الوطن السوري.

العدد 1104 - 24/4/2024