ماهية الدور التركي في تسوية الأزمة السورية

 لعبت تركيا دوراً سلبياً في الأزمة السورية، منذ الأيام الأولى لاندلاعها، فقد فتحت حدودها للمقاتلين الأجانب للدخول إلى سورية، والانضمام إلى المجموعات المسلحة المحلية في حربها ضد الدولة السورية.

 كما أنها احتضنت على أراضيها معسكرات تدريب لمقاتلي هذه المجموعات بمختلف مسمياتها، وتدخلت مباشرةً إلى جانب المسلحين في العديد من المعارك، كالمعارك التي جرت في محافظتي حلب وإدلب والأجزاء الشمالية لمحافظة اللاذقية، لذلك فإن الكثير من الشكوك تحوم حول طبيعة الدور الذي يمكن أن تلعبه تركيا في تسوية النزاع السوري، وإمكانية التزامها بتعهداتها.

في الواقع، بنتْ تركيا تدخلَها الأرعن، في الأزمة السورية، على حساباتٍ خاطئة وتمنيات منفصلة عن الواقع، بأن النظام في سورية الأبية سيسقط خلال فترة أقصاها سنة، إلا أن الصمود الأسطوري للجيش العربي السوري وحلفائه، ودخول روسيا على خط الأزمة السورية، وتحرير مدينة حلب، أدّى إلى تغيير سيرورة الصراع كلياً، وتخريب مشاريع نظام أردوغان وأحلامه في (العثمانية الجديدة).

 ولقد أدرك نظام أردوغان متأخراً أن الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية، أراد أن يجعل تركيا مطية لتمرير مشاريعه الشيطانية لمنطقة الشرق الأوسط، فوجدت تركيا بعد ذلك نفسها في وسط الحريق الذي ساهمت في إشعاله، فأمنها مهدّدٌ من قبل الجماعات الإرهابية نفسها التي تنشر الفوضى والإرهاب في سورية، والمشاريع التقسيمية الأمريكية للمنطقة تطول تركيا أكثر من أي دولة أخرى.

وهكذا اضطر نظام أردوغان، أمام هذه الوقائع الجديدة، إلى اللجوء إلى موسكو، للتفاهم والتعاون معها بعد سنوات من الفشل في مواجهتها.

في الحقيقة، تدرك روسيا جيّداً حقيقة الدّور السلبي الذي لعبه نظام أردوغان، الذي سهّل دخول آلاف العناصر الإرهابية من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق في آسيا الوسطى، وهذا ما يشكّل تهديداً أمنياً مباشراً لروسيا، إلا أن روسيا أصرّت على وجود تركيا في جميع محادثات تسوية الأزمة السورية، وصولاً إلى الاتفاق الأخير حول المناطق الآمنة.
ومع ذلك كلّه، فإنّ جملة التناقضات والتعقيدات، المرتبطة بالبعد التركي في الأزمة السورية، تُبقِي السؤال حول ماهية الدور التركي، مفتوحاً.

في الواقع، كان هدف روسيا، منذ ربيع عام ،2016 تحويل الصراع من الميدان إلى طاولة المفاوضات، لذلك من وجهة نظرنا، يُعتبَر إدخال تركيا في اتفاقات تسوية الأزمة السورية حنكة دبلوماسية روسية كبيرة،
فقد أدّى التوافق الروسي- الإيراني- التركي إلى تحييد الدول الغربية، عن الصراع السوري، وخاصةً بعد انكشاف مشاريعهم المبيتة لهذه المنطقة، وإدخال تركيا في هذه الاتفاقات سيساهم مساهمة كبيرة في ذلك.

والحقيقة أنّ تحييد الدول الغربية عن الصراع السوري يعتبر خطوة جيدة، تصبّ في صالح الدولة السورية، إذ أن التدّخل المستمر لهذه الدول ساهم بخلق مشاكل جديدة وتعقيد المشاكل القائمة.

 وهكذا، فعلى الرغم من الأعمال والممارسات العدائية التي ارتكبتها تركيا، فهي لا تُعتبَر عدواً استراتيجياً لروسيا أو إيران، كما أنّها لا تمثُّل شريكاً استراتيجياً لهما، لذلك فإشراكها في الحل قد يكون أسهل الشرور، علاوة على ذلك، فإن انحصار معالجة الأزمة السورية في هذه الأطراف الإقليمية الثلاثة (روسيا، إيران، تركيا)
سيكون أكثر فعالية في إيجاد الحلول المناسبة لها، إضافةً إلى ما سبق، فإن الدور التركي سيكون محدود السقف، سياسياً وعسكرياً واستراتيجياً، فتركيا ركبت قطار الحل الروسي للأزمة السورية، اضطراراً وليس اختياراً، خاصةً بعد انكشاف النوايا الأمريكية للمنطقة. ومن ناحية أخرى فإن الوجود الروسي والإيراني على خط الأزمة السورية، اللذين يتماهى موقفهما مع الموقف السوري الرسمي في خطوطه العريضة، لن يسمح لتركيا بحرية التصرف والحركة.

ففيما يتعلق باتفاق المناطق الآمنة، فإنّ أنقرة ستلعب دور المتحدث والمفاوض باسم الجماعات المسلحة، كما أنها ستشارك، مع إيران وروسيا، في إدارة نقاط الحراسة والعبور والمراقبة، المقامة على حدود هذه المناطق، والقوات التركية التي ستشارك ستكون محدودة للغاية، ولن تكون بأيّ حالٍ من الأحوال قادرة على إحداث تغيير ملموس في سير المعارك.
علاوة على ذلك، فإن زمام المبادرة الميدانية ما زالت في يد الجيش العربي السوري وحلفائه، لذلك فإننا سنجد أنفسنا أمام مسار تفاوضيّ بين الحكومة السورية من جهة، والمجموعات المسلحة من جهة ثانية، وذلك برعاية الدول الضامنة للاتفاق، حيث سيٌضبَط الأمن في هذه المناطق الأربعة ويجري تثبيت وقف دائم لإطلاق النار.

ومن المعوّل عليه أن تضغط تركيا على الجماعات المسلحة للمشاركة في عملية التسوية هذه وإجراء مصالحات شاملة في هذه المناطق، وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن تركيا ترتبط بتحالفات قوية مع بعض الجماعات المسلحة، مثل: الجيش الحر، حركة أحرار الشام، حركة نور الدين الزنكي، لواء السلطان مراد …الخ
وهي بالتالي قادرة على التأثير والضغط عليها بشكل مباشر، كما أنّها قادرة على التأثير غير المباشر، عن طريق بعض الدول الإقليمية، على الجماعات الأخرى.

في الحقيقة، ستتضمن هذه المرحلة محادثات نعتقد أنها ستكون طويلة نسبياً، حول الكثير من التفاصيل الفنيّة والتكتيكيّة لإدارة المناطق الآمنة.

 ومن المتوقّع أن ينعقد اجتماع أستانا 5 في أوائل تموز لاستكمال المناقشات الفنية المرتبطة بهذا الموضوع، وتعتبر هذه الخطوة في غاية الأهمية والضرورة، نظراً لأنّها ستشكل الأرضية المناسبة للانتقال إلى الحل السياسي النهائي، الذي يتضمن تحديد شكل نظام الحكم، الدستور، إعادة الإعمار … الخ.

أما في الملف الكردي، الذي لا ينفصل في الحقيقة عن الملف الأمني، فكما أشرنا سابقاً، فإن تركيا أصبحت مهددة بالمشاريع التقسيمية الأمريكية للمنطقة، شأنها في ذلك شأن العراق وسورية وإيران، وهذه الدول جميعها تقف ضد نوايا واشنطن إنشاء كيان كردي مستقل، لذلك فإنّه من مصلحة جميع الأطراف الإقليمية احترام سيادة الدول المجاورة ووحدة أراضيها،
وبالتالي تنسيق الجهود لإفشال المساعي والخطط الأمريكية في هذا الشأن، الأمر الذي يجعل إعادة الأمن والاستقرار ومحاربة الجماعات الإرهابية في سورية عامةً، أولويةً ملحّةً ومستعجلة، ولا تقل أهمية عن مناهضة المشاريع الأمريكية في التقسيم.

أخيراً.. إنّ المتابع للسياسة التركية، في العقود الأخيرة، وخاصةً في تعاطيها مع الأزمات الإقليمية، يرى أن الثابت الوحيد فيها هو التأرجح والتقلب إلى درجة التناقض، الذي يعكس، من وجهة نظرنا، تناقضات بنيويّة عميقة في طبيعة نظام الحكم في تركيا.
فعلى ما يبدو أن الساسة الأتراك غير قادرين على قراءة معطيات الجغرافيا والتاريخ بشكل صحيح، فهم لا يدركون أن محيطهم الحيوي الحقيقي هو:
روسيا، إيران، العراق، سورية، الأردن، فلسطين، لبنان، وهذه الجغرافية، التي لا علاقة لأحد في خلقها، تُشكِّل ثابتةً لا يمكن تغييرها، كما أن هذا المحيط أكثر ميلاً للسلام والصداقة مع تركيا، إلا أنّ صانعي القرار في تركيا يصرُّون، بعنادٍ مثيرٍ للسخرية، على اللهاث وراء الاتحاد الأوربي وحلف الناتو، والانخراط في مشاريعهم التخريبية للمنطقة، لتجد تركيا نفسها في أتون صراعاتٍ، لا علاقة ولا مصلحة لها بها.

ونحن في هذا السياق، نفرّق بين الطبقة الحاكمة والشعب التركي الصديق، الذي نتمنى له السلام الاستقرار.

 

العدد 1104 - 24/4/2024