يكفينا نوماً… ومسكِّنات

يكفينا نوماً… ومسكِّنات!
#العدد824 #بقلم_إيناس_ونوس #جريدة_النور

منذ فترة طلبت مني إحدى الأمهات أن أدرِّس لها ابنها متمنيةً أن أذهب إليها في بيتها، لأن الطِّفل لا يرغب في الخروج، وحين استفسرتُ عن السَّبب شرحت لي الأم أنَّهم أسرةٌ نازحةٌ كمعظم السُّوريين بحكم الحرب الضَّروس وأهوالها، فقد تعرَّض منزلهم للعديد من القذائف أدَّت لتهديمه فوق رؤوسهم، وكان هذا الطِّفل من بين الذين رأوا وسمعوا وعايشوا الحدث، ما جعله يشعر بالخوف من أيّ صوتٍ قريباً كان أم بعيداً. إضافةً إلى رعبه من أنه إن خرج من البيت فلن يعود إليه مرةً أخرى، فلم يعد راغباً بالخروج لأي سبب.
توالت الأيام، وفي أثناء وجودي معه صرنا نتطرَّق لبعض الأحداث التي عايشها بنفسه، فروى لي أنه شهد ذات مرَّة كيف قُتل أحد أقاربه أمام عينيه وأعين الأطفال الآخرين ومنهم بنات الضَّحية!
حاولتُ بدايةً أن أتعامل مع هذا الطِّفل/ النَّموذج لكثير من أطفال بلادي، بأن أجعله يسرد ويخرج ما في جعبته من مشاهد تقشعرُّ لها الأبدان كطريقةٍ للخروج من بوتقة الخوف، مستعينةً ببعض أصدقائي المهتمِّين بالقضايا النَّفسية وآليات معالجتها، حتى استطعنا الوصول إلى إحدى المنظَّمات الإنسانية التي قدَّمت لنا عوناً كبيراً في هذا المجال وساعدت الطِّفل على التَّعامل مع ذاكرته بطريقةٍ مختلفة. ثم، بعد حين، وافق أن يخرج إلى المدرسة ويتواصل مع أقرانه فوجد أنه ليس الوحيد الذي تعرَّض لما تعرَّض له، إنما كان من القلائل الذين أُتيحت لهم الفرصة للعيش مجدَّداً من خلال التَّواصل مع بعض المهتمِّين المتعاونين والذين ساعدوه حقيقةً.
هذا نموذجٌ مُصغَّرٌ لغالبية السُّوريين كباراً وصغاراً الذين أمسوا جميعاً بحاجة ماسَّة إلى إعادة التَّأهيل النَّفسي وترميم الأرواح. هذا المجال المقتصر حقيقةً على بعض المنظَّمات الإنسانية النَّشطة في فترة الحرب، إنما للأسف، ما من مؤسسات حكومية تُساهم بهذا العمل لا في فترة الحرب ولا بعد انتهائها، فالمجتمع برمَّته قد تشوَّه وغدا عبارة عن مجموعة حالاتٍ نفسيةٍ مريضةٍ بحاجة لإعادة التَّأهيل، لأنه وكما هو معروف فإن آثار الحرب تظهر بعدها أكثر مما تظهر في وقتها. من هنا تبرز أهمية عمل الحكومة باختلاف مؤسساتها على تبني مشروع للتَّعامل مع هؤلاء الضَّحايا ليعودوا قادرين على الوقوف مُجدداً والمشاركة بعملية إعادة إعمار الإنسان قبل الحجر.
لكن وعلى مبدأ المثل الشَّعبي (سمعان مو هون)، فإن حكومتنا، على ما يبدو، لا تبالي بهذا الأمر، فكم ممن أقعدتهم إصاباتهم عن المضي في عملهم يملؤون الشَّوارع، إمّا بحثاً عن عمل يقيهم شرّ الحاجة، أو نراهم قد فقدوا عقولهم يحدِّثون أنفسهم عمَّا عاينوه!؟ وغيرهم كثير من شرائح المجتمع التي لا يسعفنا المكان هنا لتعدادهم.
بتنا جميعاً بحاجة إلى أطباء ومؤهِّلين نفسيين، في الوقت الذي لم يعد في البلد، إن وجدوا، إلاّ الأطباء النَّفسيون الذين يعالجون من خلال الأدوية فقط ما يزيد الأمر سوءاً، فليست كل الحالات تتطلَّب الطَّريقة ذاتها من العلاج. نحن لا نريد منوِّماتٍ أو مسكِّناتٍ تهدِّئنا فترة من الزَّمن، يكفينا نوماً! نحن بحاجة إلى أيدٍ رقيقة وقلوبٍ بيضاء تساعدنا في الخروج ممّا نحن فيه، وفي امتلاك القدرة للوقوف مُجدَّداً من أجل النُّهوض ونفض رماد الحرائق التي أودت بنا. إننا بحاجة إلى من يتعامل معنا كبشرٍ نملك دماءً وأرواحاً وأجساداً معطوبةً!

العدد 1102 - 03/4/2024