كتب حنين نمر: لئلا تضيع مصر

أثار العمل الإجرامي البشع الذي أقدمت عليه داعش في مصر الشقيقة استنكار ذوي الضمائر الحية في العالم، وهذا العمل هو تفجير باص يحلم ركاباً أقباطاً في رحلة دينية متجهين من القاهرة نحو محافظة منيا،

وقد سقط بسببه أكثر من 28 شهيداً وعدد من الجرحى، ويأتي ذلك في إطار مسلسل الجرائم التي ترتكبها داعش وأخواتها في مصر وسورية والعراق وغيرها.

مما لاشك فيه أن هذه الجريمة الجديدة لم تكن مفاجئة لأحد، وأصبح معروفاً المسلك الإجرامي للعصابات الإرهابية الذي يقوم على تجهير المسيحيين في مصر والبلدان العربية الأخرى،
من أجل أن تستفرد إسرائيل بالمنطقة العربية بكاملها بعد طرد سكانها الأصليين منها، كما لم يعد خافياً على كل ذي بصيرة أن النشاط الإرهابي الذي اشتد وعم وأصبح ظاهرة ليست عربية ولا إقليمية فحسب،
بل ظاهرة عالمية أيضاً، بعد أن امتدت العمليات الإرهابية إلى بلدان عديدة في العالم مثل إندونيسيا- الفيليبين- بريطانيا وفرنسا- فضلاً عن سورية والعراق واليمن وليبيا وروسيا والصين.

وتشكل مصر أحد أهم استهدافات الإرهابيين، فهي من كبريات البلدان الإقليمية،
وتتمتع بمكانة سياسية واقتصادية وثقافية هائلة وذات وزن معنوي وسياسي كبير، ويعدها العرب منذ عهد القائد التاريخي جمال عبد الناصر رائدة للقومية العربية.

هذا كله فضلاً عن تأثيرها في تحرير عشرات الدول المستعَمرة ونيلها الاستقلال الوطني.

وتملك مصر إرثاً ثقافياً ودينياً كبيراً يسمح لها بخلق حالة من الوعي ومن الثقافة لدى شرائح واسعة من سكان المدن،
وقد بقيت الفئات المصرية المتنورة تمارس هذا التأثير إلى أن اشتد نشاط (الإخوان المسلمون) في أوائل القرن السابق،
لاسيما في الأرياف التي لم تعرف العلم والتعليم نظراً للزيادة المطردة في معدلات نمو السكان،
وقصور دور الدولة في مختلف الأنشطة، بعد أن قطعت أشواطاً كبيرة في عهد عبد الناصر باتجاه محو الأمية والاهتمام بالعلم.
كل ذلك، خلق أرضية خصبة للتدين بكل أشكاله ومستوياته ومدارسه.

يشكل الوضع الاقتصادي المصري العنصر الرئيسي المحدد للتوجه السياسي للدولة
خاصة أمام توجه القسم الأكبر من الدخل الوطني لإطعام ملايين الجائعين والمتوالدين بنسبة تعد من أعلى النسب في العالم كما تبتلع (القط السمان) جزءاً آخر كبيراً من الدخل الوطني عن طريق الدولة وغير طريق الدولة.

إن اعتماد مصر على الديون الخارجية لتغطية العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات، ولتمويل الاستثمارات الكبيرة المخطط لها، ومن أجل إطعام الشعب وسد الحد الأدنى من مطلباته،
قد أصبحت سياسة تقليدية لمعظم الأنظمة المتعاقبة، وتعتبر الديون الخارجية والداخلية المترتبة على خزينة الدولة العنصر الأساسي الضاغط على ميزانيتها،
وتجعل من تسديد هذه الديون الشغل الشاغل لأي حكومة مصرية، وخاصة لتلك التي تريد الانفكاك عن التبعية للغرب مع الحفاظ على استقرار قرارها، كما حدث في عهد عبد الناصر.

غير أن هذه الديون وهذه العجوزات، خاصة في ميدان الأمن الغذائي قد أفلحت في توجيه السياسة المصرية، إلى حد بعيد، نحو التخلي عن استقلال قرارها لقاء المساعدة في تغطية هذه الديون التي غالباً ما كان تكون تغطية تغطية جزئية.

ومنذ اليوم الأول لاستلام الفريق السياسي السلطة في البلاد لم تفارقه لحظة واحدة سياسة اللعب على حبال التناقضات الإقليمية والدولية، وإلى حد كبير الداخلية منها، باستثناء الضربة الكبيرة التي وجهت لجماعة الإخوان،
وهذا عنصر إيجابي في سياسته، لكن ما يبرز  في سياسته الداخلية من إطلاق العنان لاقتصاد السوق الحر، والأزمات المعيشية التي تعاني منها الجماهير الهائلة، يضعف أيضاً من موارد الخزينة ويجعل من اقتصاد الظل مولداً لمزيد من القوة للرأسمالية الطفيلة المتوحشة،
وهذا عنصر آخر لا يساعد على تأمين المتطلبات الحادة والملحة للمواطنين وبشكل خاصة الطلب على القمح والطحين، بل يشدد من الضغوط الهائلة على الاقتصاد المصري ويزيد من دوافع الارتباط بالخارج.

لقد استفحلت أزمة الغذاء في الآونة الأخيرة لدرجة يصعب الخروج منها، وقد استغلت المملكة السعودية هذا الأمر ومارست على النظام السياسي في مصر أشد أنواع الابتزاز، وطلبت منه (تحت طائلة حرمانه من المساعدات) أن يتخذ المواقف السياسية الملائمة لها، وخاصة في قضية الجزر،
وقضية اليمن والموقف من إيران، وتليين مواقفه من إسرائيل في القضية الفلسطينية، وكان آخر هذه المواقف هو الذي نتج عن الزيارة الخطيرة التي قام بها الرئيس الأمريكي (ترامب) والتي كلفت الشعب السعودي بل الشعب العربي أيضاً مئات المليارات من الدولارات لقاء (حماية) أنظمة الخليج من الخطر الإيراني المزعوم،
ولقاء إحلال عدو آخر افتراضي ووهمي، محل العدو الإسرائيلي وهي الأفكار التي إذا نفذت قراراتها وتوجهاتها، تكون الأمة العربية أمام كارثة جديدة تحشد فيه القوى ضد إيران،
وتكرس إسرائيل صديقة وفية للعرب وتربطها أحلاف جديدة مع أنظمة الخليج وتصفّى القضية الفلسطينية بما يتعارض مع مصالح الشعب الفلسطيني وحقوقه.

إن الرئيس السيسي أمام خيارات استراتيجية صعبة بعد قمة الرياض، فإما أن ينحاز إلى الخيار العربي الذي يمثله صمود سورية وبعض الأنظمة العربية أمام الهجمة الأمريكية، الإرهابية، الإسرائيلية،
والمستند إلى تحالفات واسعة مع روسيا وإيران والصين ودول البريكس، وذلك ما يفتح آفاقاً اقتصادية جديدة مع هذا الفضاء الدولي الواسع، أو أن تستمر سياسة التردد والتأرجح التي يصب في نهاية المطاف في مصلحة الإرهاب وإسرائيل والرجعية العربية.

العدد 1102 - 03/4/2024