نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة

يصر كثيرون، سواء بحسن نية، أم بسوء نية، على مواصلة بث روح التشاؤم والإحباط بين الناس.. وإذ يمكن للمرء أن يجد تبريراً حقيقياً لتكوّن المشاعر السلبية عندها من الأساس، لكن من غير المفهوم تجاهل كل المتغيرات التي حصلت والإصرار على الزعم بأن زمام المبادرة باق بيد المشروع الإمبريالي وحلفائه في المنطقة.

في سورية التي أنهكها الدمار والتدمير والحرق على امتدد أكثر من سبع سنوات، وقدمت من الشهداء والضحايا والجرحى والمفقودين والمخطوفين والمعتقلين والمهجّرين، الملايين، والتي انصب الحصار الاقتصادي والسياسي عليها، وعلى الأخص على رئيسها الشرعي، واستنفرت قوى حوالي 100 دولة ضدها، سورية هذه بقيت طوال هذه السنوات متمسكة بسياستها وثوابتها الوطنية والقومية، ولم تطأطئ هامتها للاستعماريين القدامى والجدد، ولم ترض للعالم أن يدار من مركز واحد، وبذلك تعطلت إحدى الحلقات الاستراتيجية للمؤامرة الأمريكية للإطباق على العالم.

وفي سورية أيضاً أُحبط أهم مشروع دموي لإعادة بسط الجهل والظلامية عبر ما أسمي بدولة الخلافة التي اغتصبت جزءاً من العراق لعدة سنوات، وبفضل بطولة الجيش العراقي، واستنفار جهود القوى الحية في المجتمع، أمكن تحرير معظم العراق وإنقاذه من أحفاد هولاكو، فذهبوا ولم يذهب العراق، وهذا تحول تاريخي أيضاً مقارنة بالمخطط الأمريكي الخليجي لتقزيم العراق واحتوائه من قبل دول الخليج، وتعطيله كجيش عربي مقاتل قد يؤدي دوراً أساسياً إلى جانب الجيوش ومراكز الثقل العربية في الصراع العربي – الصهيوني.. وكان لتحرير الموصل أكبر الأثر في خلق قاعدة مشتركة للتعاون السوري العراقي الذي سيؤدي دوراً كبيراً في تغيير المعادلات في الشرق الأوسط.

أما في لبنان فقد تمكنت القوى والعناصر الوطنية في الجيش اللبناني من إنجاح عملية التنسيق بينها وبين الجيش العربي السوري والمقاومة الوطنية اللبنانية، بعد أن حاولت القوى الانعزالية إعاقة هذا التنسيق، وأمكن نتيجة له القضاء على فلول الإرهابيين في جرود عرسال، بمعارك بطولية يشهد التاريخ عليها، وأعطت مثلاً على قدرة التعاون العربي على إحداث تأثيرات عميقة في القدرات الهائلة التي تختزنها القوى الوطنية العربية إن تعاونت معاً.

وبعد غياب فلسطين، الغياب النسبي بالطبع عن واجهة الأحداث، تفجرت أرضها غضباً ونزل عشرات الألوف من الفلسطينيين إلى الشوارع يقارعون جنود الاحتلال بصدورهم العارية، يدافعون عن وطنهم ومقدساتهم، رافضين المحاولات الإسرائيلية لتهويد فلسطين ومحو طابعها العربي.

لقد أفرزت أيام فلسطين الأخيرة دروساً عديدة، أهمها أن التنازل للعدو الإسرائيلي ليس هو الطريق لاستعادة الحقوق، ويجب على الفعل السياسي أن يقترن بعمل جماهيري واسع ضد الاحتلال، وإلا فإنه لن يؤدي إلا لترسيخ الاحتلال.

وإذا أردنا الخوض في تفاصيل الوضع العربي، فسوف نصل إلى دروس هامة ومشتركة على معظم الجبهات العربية.

فاليمن مثلاً يشهد حالة من الصمود السياسي والميداني والشعبي، تدعو إلى التقدير، ورغم مرور أكثر من عامين على الغزو السعودي لليمن، لم يتمكن هذا الغزو من قهر إرادة اليمنيين الذين يدعمون أكثر فأكثر القوى المقاومة لهذا الغزو.

ولا تخرج تونس عن الإطار العام للتحركات الوطنية والديمقراطية المعادية للإرهاب والتي يرتفع مستواها مع تعقد المسألتين الاجتماعية والوطنية، وافتضاح تورط الحكومات التونسية السابقة بتشجيع الإرهاب وتصديره إلى سورية.

إن هذه اللوحة العامة للوضع العربي تشجع على القول إن هذا الوضع هو على عتبة التحولات الكبرى، فالولايات المتحدة ليست في وضع يمكنها من التدخل المباشر ضد سورية والعراق ولبنان، وروسيا توطد علاقات الصداقة والتحالف بينها وبين سورية وغيرها إلى الدرجة التي أصبح معها أي عدوان أمريكي ضد سورية هو عملية انتحار سياسي وعسكري لها، والشعوب كسرت هيبة أمريكا ورهبتها، وانفرط عقد مجلس التعاون الخليجي، وتنتظر السعودية وتركيا تطورات ليست في مصلحة النظام السياسي فيهما.

وما سبق لا يعني أن التطور يحصل بطريقة عفوية وحتمية، ولكي تكتمل عوامل إنضاج التغيير وتصفية المرحلة السابقة، فلا بد من أن تعي الدول الوطنية الدرس، وترتقي أنظمتها السياسية إلى مستوى خطورة المرحلة الانتقالية التي نعيشها، وتعمد إلى إطلاق الحريات الديمقراطية، وتوسيع قاعدة حكمها، وأن تحارب الفساد بجدية كبيرة، وتلتفت إلى الأحوال المعيشية للجماهير الواسعة، وتعزز عرى التحالف مع الحلفاء، وأن تُرسي قواعد التعامل والتعاون بين القوى الوطنية والتقدمية والقومية واليسارية في العالم العربي، لتشكيل جبهة عريضة لمقاومة المشروع الإمبريالي والمشروع الإرهابي بغية دحره تماماً، والعمل على بناء المشروع النهضوي العربي.

العدد 1104 - 24/4/2024